د. مريوة حفيظة – جامعة وهران 2، قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
يمثّل الدخول الجامعي مع بداية كل سنة دراسية جديدة محطة مفصلية في حياة الطالب، حيث يجد نفسه أمام فضاء يفتح أبواب الحرية والاستقلالية، ويضعه في الوقت ذاته أمام رهانات ومسؤوليات مضاعفة. فالجامعة ليست مجرد محطة للتعلّم ونيل الشهادات، بل هي فضاء اجتماعي–نفسي تتقاطع فيه أبعاد المعرفة، الهوية، والعلاقات الإنسانية.
ومع هذا الانتقال، تبرز الحاجة إلى تهيئة شاملة واستعداد نفسي وعلمي يتيح للطالب مواجهة التحديات، والتكيّف مع متغيرات البيئة الجامعية، واستثمار الفرص المتاحة. وهنا نطرح الإشكال التالي:
_ كيف يمكن للطالب أن يوازن بين التكيّف النفسي والتحصيل العلمي ليجعل من تجربته الجامعية مغامرة ناجحة ومشروعًا لبناء مستقبله الشخصي والمهني؟
الجامعة: مؤسسة لصناعة الأجيال
الجامعة ليست مجرد فضاء دراسي ينال فيه الطالب شهادة تؤهله لسوق العمل، بل هي مؤسسة تعليمية–اجتماعية كبرى تختزن أبعادًا ثقافية ونفسية ومعرفية تجعلها فضاءً لإعادة تشكيل الفرد والمجتمع معًا.
من منظور سوسيولوجي، تُعَدّ الجامعة مؤسسة اجتماعية بامتياز، إذ تساهم في إعادة إنتاج البنية الاجتماعية عبر تخريج كفاءات تحمل قيم المجتمع وتطلعاته. أما من الناحية التربوية، فهي تتجاوز حدود التلقين إلى تكوين شخصية الطالب وصقلها بالمعارف، مع تنمية قدراته النقدية والتحليلية.
إنها بمثابة مختبر لإعادة تعريف الذات، حيث يكتشف الطالب هويته الأكاديمية، ويرتب مساره المهني والشخصي، ليغدو فاعلًا قادرًا على الاندماج في المجتمع والمساهمة في تنميته.
التحديات النفسية: التكيّف مع بيئة جديدة
يشكّل الدخول الجامعي مرحلة انتقالية محمّلة بتحديات نفسية واجتماعية، أبرزها:
_ إدارة القلق والتوتر: التغيير المفاجئ قد يولّد شعورًا بالارتباك، مما يستدعي تدريب الطالب على التحكم بانفعالاته.
_ الثقة بالنفس: ركيزة أساسية لمواجهة الامتحانات وضغوط الدراسة.
_ التكيّف الاجتماعي: الاندماج مع زملاء وأساتذة متنوعي الخلفيات والأنماط التعليمية.
وهنا يبرز دور الأسرة والجامعة في توفير دعم نفسي متواصل يخفف من صدمة الانتقال ويزرع الإحساس بالطمأنينة.
التحفيز والدعم: محرك أساسي للمسار الجامعي
لا يقتصر نجاح الطالب على الكفاءة المعرفية فقط، بل يحتاج إلى محفّزات نفسية واجتماعية، منها:
_ الدعم النفسي: تعزيز الثقة، بناء المرونة الذهنية، ومساعدته على تقبّل التغيير.
_ الدعم البيداغوجي: تمكين الطالب من أدوات البحث العلمي، وتعليمه مهارات التنظيم الذاتي والتفكير النقدي.
_ دور الأسرة والجامعة: تقديم تشجيع مستمر، وتوفير نماذج إيجابية تحفّز على المثابرة والتفوق.
فالتحفيز ليس مجرد عامل ثانوي، بل هو طاقة دافعة لمواجهة صعوبات الواقع الجامعي.
الاستعداد العلمي والأكاديمي: مفاتيح المغامرة الجامعية
تجربة الجامعة أشبه بمغامرة علمية تحتاج إلى أدوات خاصة للنجاح، منها:
_ تنظيم الوقت لمواجهة ضغط المحاضرات والأعمال الموجّهة.
_ الانتقال من الحفظ والتلقين إلى منهجية البحث العلمي.
_ الانفتاح على المطالعة واستثمار المصادر المتنوعة.
_ تنمية المسؤولية الفردية والقدرة على العمل الجماعي.
فالتحضير الأكاديمي لا يعني فقط تراكم المعارف، بل يشكّل بناءً لشخصية جامعية قادرة على التفكير النقدي والإبداع.
الجامعة كمحفّز للإبداع وصياغة المشاريع
الجامعة ليست مجرد محطة بين مقاعد الدراسة وسوق العمل، بل هي ورشة كبرى لاكتشاف القدرات وصقلها، حيث:
_ تفتح آفاقًا لتجريب الأفكار عبر النوادي العلمية والثقافية.
_ تتيح التفاعل مع أساتذة وزملاء من خلفيات مختلفة، بما يعزز تبادل الخبرات.
_ تزرع روح المبادرة والابتكار، وتدفع نحو صياغة مشروع شخصي–مهني متكامل.
بهذا تصبح الجامعة قوة مجتمعية حقيقية تدفع عجلة التنمية وتُعِدّ النخب التي تقود المستقبل.
إن الدخول الجامعي تجربة سوسيونفسية شاملة تتطلب مرافقة متكاملة بين التكيّف النفسي والتحصيل العلمي، وبين الدعم الاجتماعي وصياغة المشروع المهني. فالجامعة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي معبر استراتيجي لبناء الذات والمجتمع معًا، حيث تتلاقى الحرية مع المسؤولية، والمعرفة مع الإبداع، لتشكيل جيل واعٍ قادر على مواجهة تحديات الواقع وصناعة المستقبل الذي يبدأ من مقاعد الجامعة، فاصنعه بإرادتك واجتهادك.
وعليه، تؤكد الدكتورة مريوة حفيظة أنّ الدخول الجامعي يشكّل حدثًا سوسيونفسيًا بامتياز، إذ يتقاطع فيه البعد الاجتماعي بما يحمله من أدوار اندماج وتفاعل وانفتاح على محيط جديد، مع البعد النفسي الذي يقتضي قدرة الطالب على التكيّف مع متغيرات المرحلة، وضبط طموحاته، وبناء هويته الأكاديمية والشخصية.
فالجامعة ليست مجرد فضاء للتحصيل، بل هي تجربة وجودية تصوغ الذات وتؤسس لمسار مستقبلي واعد.
دخول جامعي موفق ومثمر.