رياضة
الاحتفال كفعل رمزي: تحليل سوسيولوجي للهوية والانتماء في الفضاءات الرياضية

د. مريوة حفيظة
قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا – كلية العلوم الاجتماعية
جامعة وهران 2 – محمد بن أحمد
في كل مرة يهزّ فيها لاعب الشباك، لا يتوقف الأمر عند تسجيل الهدف، بل يبدأ ما هو أعمق: لحظة انفجار رمزي تُجسّدها احتفالية قد تبدو عفوية، لكنها في الواقع مليئة بالرموز والدلالات.
فهل نحتفل لمجرد الفرح؟ أم أن للاحتفال الرياضي وظيفة اجتماعية خفية؟
وهل يتحوّل الجسد المحتفل إلى لغة ناطقة بالهوية والانتماء، أم إلى عرض اجتماعي يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع؟
تضعنا هذه التساؤلات أمام إشكالية مركزية:
كيف يتحوّل الاحتفال في الفضاءات الرياضية من فعل جسدي فردي إلى أداء رمزي جماعي يُنتج معاني الهوية والانتماء، خاصةً في السياق الجزائري؟
في هذا الإطار، يبدو أن الاحتفال الرياضي يتجاوز البعد العاطفي اللحظي، ليُعبّر عن حاجات اجتماعية وثقافية كامنة، مثل تأكيد الهوية الوطنية، واستعادة الرموز الثورية، وخلق مساحة رمزية للتنفيس عن توترات اجتماعية وسياسية يصعب التعبير عنها مباشرة.
في الجزائر، الملعب ليس مجرد فضاء رياضي، بل مرآة لمجتمع مُركّب تتقاطع فيه السياسة بالتاريخ، والذاكرة بالهوية.
الجماهير لا تحتفل فقط، بل تُعيد إنتاج سرديات وطنية، وتُفاوض على موقعها داخل جماعة متخيلة.
في هذا المشهد الرمزي، يصبح الجسد المحتفل – سواء كان لاعبًا أو مشجعًا – أداة للتعبير الرمزي المشحون بالمعنى، يتقاطع فيه الفردي بالجماعي، والعفوي بالمكتسب، والرمزي بالواقعي.
ولفهم هذا الفعل الرمزي المركّب، نستحضر أدوات التحليل السوسيولوجي عبر مقاربة بيار بورديو وإرفينغ غوفمان.
فبورديو يرى في “الحقل الرياضي” فضاءً للصراع الرمزي والهيمنة، بينما ينظر غوفمان إلى الفعل الاجتماعي باعتباره عرضًا رمزيًا لإدارة الانطباع وبناء الصورة الذاتية.
يقدّم بورديو تصورًا للمجتمع باعتباره شبكة من “الحقول الاجتماعية” المستقلة نسبيًا (السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الرياضي…)، لكل منها قواعده وأنماط رأسماله:
• رأسمال اقتصادي: موارد مادية.
• رأسمال ثقافي: معارف وشهادات.
• رأسمال اجتماعي: شبكات علاقات.
• رأسمال رمزي: هيبة، شرعية، اعتراف.
في هذا السياق، يُعتبر الحقل الرياضي مجالًا تنافسيًا يُنتج داخله الفاعلون الرموز والمعاني، ويمارسون صراعات غير مادية على الاعتراف والهيمنة الرمزية.
في المجتمع الجزائري، تشكّل الملاعب امتدادًا للفضاء العمومي الشعبي، خاصة في فترات التوتر السياسي والاجتماعي.
فهي مجال يُمارَس فيه التعبير الرمزي بحرية نسبية، من خلال الهتافات، رفع الأعلام (الوطنية أو التضامنية، مثل علم فلسطين)، واستدعاء الذاكرة الثورية أو النقد الاجتماعي.
بهذا، تُنتج الملاعب رأسمالًا رمزيًا وهوياتيًا يُعيد تموضع الفاعلين ضمن معادلات الانتماء والشرعية الشعبية.
ومع تصاعد دور شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح ما يُنتَج رمزيًا في الملاعب يُعاد تدويره رقميًا، ليُشارك في صناعة رأي عام رقمي حول الهوية والانتماء، ويوسّع من مدى “الاحتفال” كفعل اجتماعي يتجاوز حدود الزمان والمكان.
وفقًا لغوفمان، يُقدّم الفرد نفسه للآخرين كما لو كان ممثلاً على خشبة مسرح، يسعى إلى “إدارة الانطباع” من خلال سلوكياته الظاهرة.
في السياق الرياضي الجزائري، نلاحظ تنسيقات جماعية (كوريوغرافيا، أناشيد، هتافات موحّدة)، واحتفالات فردية ذات دلالات رمزية (سجود، رفع علم، إشارات دينية أو تاريخية).
في هذه اللحظة، لا يُعبّر اللاعب أو المشجع فقط عن الفرح، بل عن هوية وانتماء، ويتحوّل الجسد إلى حامل لمعنى رمزي يتجاوز الرياضة نحو السياسة والذاكرة الجماعية.
كما يُعيد الجمهور تأويل هذه الأفعال ضمن سياقهم الثقافي والاجتماعي، ليُضفوا عليها معاني احتجاجية أو تضامنية أو وطنية.
ويتميّز الجمهور الجزائري بقدرته على إنتاج المعنى، لا على استقباله فقط، من خلال هتافات تحمل رسائل اجتماعية وسياسية، وتيفوهات تُجسّد الذاكرة الوطنية، واحتفالات تتعدى حدود الملعب.
هكذا تتحول الملاعب إلى فضاء لبناء “نحن” الجماعية، ومكان لاختبار حدود الانتماء الوطني، وحقل لتفريغ التوترات بطريقة رمزية وسلمية.
لقد أصبحت الاحتفالات الكروية الجزائرية طقسًا اجتماعيًا دوريًا يُعيد بناء الرابط الاجتماعي، ويمنح الشعور بالهوية والانتماء، تمامًا كما وصف إميل دوركايم الطقوس كآليات للتماسك الجمعي.
إن الاحتفال الرياضي في الجزائر ليس فعلًا عابرًا، بل لحظة اجتماعية مكثفة تُعبّر عن الذات الفردية والجمعية في آنٍ واحد، وتُعيد رسم معالم الانتماء والهوية في مجتمع متحوّل.
ومن خلال أدوات بورديو وغوفمان، نفهم كيف يتحوّل الملعب إلى خشبة مسرح اجتماعي، يُمارس فيه الأفراد والجماعات رمزية معقدة تُجسّد التاريخ، والسياسة، والاحتجاج، والانتماء.
فالهدف قد يُسجَّل في ثوانٍ، لكن الاحتفال به قد يعيش طويلًا في الوجدان الجماعي، كعلامة رمزية على من نكون… ومن نرغب أن نكون.
ألف مبروك للمنتخب الجزائري وللجزائر هذا التتويج المستحق.
إنه فوز رياضي يحمل رمزية الهوية والوحدة الوطنية، ويُضاف إلى الذاكرة الجمعية كلحظة فخر واعتزاز.
دامت الأفراح في الجزائر، ودامت الكرة مصدرًا للبهجة والتلاحم الشعبي.