وطني
الصحافة في زمن التحول الرقمي: بين تحديات المهنة وتحولات دور الصحفي في مجتمع المعرفة

الدكتورة مريوة حفيظة – جامعة وهران 2،
كلية العلوم الاجتماعية، قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا
الصحفي في قلب العاصفة الرقمية
منذ نشأتها، حملت الصحافة وظيفة مزدوجة: نقل الوقائع من جهة، وممارسة دور اجتماعي وتوعوي من جهة أخرى. غير أن هذه الوظيفة الكلاسيكية واجهت زلزالاً حقيقياً مع صعود الرقمنة، التي لم تُغير فقط أدوات العمل الصحفي، بل قلبت المفاهيم ذاتها المرتبطة بالإعلام، الجمهور، والمعلومة. فلم يعد الإعلام حكرًا على المؤسسات، بل أصبح فضاءً مفتوحًا يشارك فيه الجميع: من الصحفي المحترف إلى المواطن العادي، ومن المؤسسات الكبرى إلى الأفراد العاديين على مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا السياق المتحوّل، تضخمت مسؤوليات الصحفي وتوسّعت أدواره. لم يعد مجرد ناقل للحدث، بل أصبح مطالبًا بأن يكون منتجًا للمعرفة، محللًا للوقائع، ناقدًا ، حارسًا لأخلاقيات المهنة، ومدافعًا عن الحق في الوصول إلى الحقيقة وسط فوضى إعلامية مفتوحة.
لكن هذا الدور الجديد لا يأتي بلا تكلفة. إذ تواجه الصحافة اليوم ضغوطًا مركبة في مجالات متعددة. وهي جميعها تمتحن قدرة الصحفي على الاستمرار كفاعل اجتماعي مستقل في عصر الإعلام الموجَّه، وتحت سطوة الخوارزميات التي تُحدد ما يظهر، وكيف، ولمن.
و عليه نطرح التساؤلات التالية:
_كيف أعادت التحولات الرقمية تشكيل مهنة الصحافة وأدوار الصحفي؟
_ ما أبرز التحديات المهنية والمعرفية التي يواجهها الصحفي اليوم؟
_ كيف يمكن للصحفي الحفاظ على رسالته الاجتماعية في ظل
هيمنة السوق والتكنولوجيا؟
_ ما طبيعة العلاقة الجديدة بين الصحفي والجمهور في عصر التفاعل الفوري والمعلومة المفتوحة؟
_ ما هو الدور السوسيولوجي الجديد للصحفي في مجتمع المعرفة؟ وهل ما زال قادرًا على التأثير في الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام؟
الصحفي كفاعل اجتماعي في مجتمع المعرفة
في زمن التحول الرقمي، لم يعد الصحفي يشغل موقع “الوسيط” التقليدي فقط، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في تشكيل الإدراك العام وصناعة المعنى الاجتماعي. فكل ما يُنشر أو يُحرر، من اختيار العناوين إلى طريقة عرض الخبر، يساهم في بناء تمثلات جديدة لدى الجمهور حول الواقع.
وفق مقاربة بيير بورديو، ينتمي الصحفي إلى حقل إعلامي مستقل نسبيًا، لكنه في تفاعل دائم مع حقول أخرى: السياسية، الاقتصادية، الثقافية، وحتى الأمنية. ويمتلك الصحفي داخل هذا الحقل رأسمالًا رمزيًا (كالمصداقية، الثقة، والقدرة على الوصول للمعلومة)، وهو ما يسمح له بالتأثير في المتلقي، بل والمشاركة في صناعة الرأي العام نفسه.
لكن هذا التأثير مشروط بقدرته على الحفاظ على استقلاليته، وتطوير أدواته، دون الانسياق وراء منطق السوق، أو الخضوع للتوجهات المفروضة من رأس المال الإعلامي أو الضغوط السياسية.
تحولات الدور: من ناقل للخبر إلى صانع للمعنى
لقد غيّر التحول الرقمي من طبيعة الدور الذي يؤديه الصحفي. ففي السابق، كانت المعلومة نادرة والوصول إليها محصورًا. أما اليوم، فالمعلومة متوفرة بكثرة، والمتلقي نفسه أصبح فاعلًا إعلاميًا، وهو ما يُحتّم على الصحفي أن يُعيد تعريف دوره ومهامه.
لم يعد الاكتفاء بنقل الخبر كافيًا. بل أصبح الصحفي اليوم:
صانع محتوى رقمي تفاعلي، يتقن استخدام المنصات الإعلامية الحديثة.
محلل ومفسر، يضع الوقائع في سياقها ويوضح خلفياتها ودلالاتها.
رقيب اجتماعي، يمنح الصوت للطبقات والفئات غير الممثلة إعلاميًا.
وسيط معرفي، يُبسّط الواقع المعقد بلغة عقلانية تراعي وعي الجمهور وتنوعه.
هذا التحول يتطلب من الصحفي امتلاك تكوين ثقافي متين، ووعي سوسيولوجي بالتغيرات المجتمعية، إضافة إلى أدوات التفكير النقدي والقدرة على التحليل العميق.
تحديات المهنة: بين خوارزميات المنصات ومثالية الرسالة
تُواجه الصحافة في عصر الرقمنة سلسلة من التحديات البنيوية والمهنية، التي قد تُربك حتى أكثر الصحفيين خبرة:
– السرعة مقابل الدقة: ضغط الزمن الرقمي يُهدد جودة التحقق من المعلومات.
– انتشار الأخبار الزائفة والمضللة: ما يتطلب رفع كفاءة التحقق والتأكد من صحتها.
– المخاطر والصعوبات التي يعترض إليها للوصول إلى الحقيقة .
ورغم خطورة هذه التحديات، فإنها تفتح أيضًا المجال لإعادة صياغة دور الصحفي، وتعزيز موقعه كفاعل نقدي داخل المجتمع، وكمثقف عضوي يقف في قلب المعارك المعرفية والقيمية المعاصرة.
الصحفي في مجتمع المعرفة: ضرورة اجتماعية واستراتيجية
رغم ما يشهده الحقل الإعلامي من تحولات، تظل الصحافة الجادة ضرورة اجتماعية واستراتيجية، لا ترفًا. فالصحفي اليوم ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو مَن يمنحها معناها، ويعيد تركيب الواقع بطريقة تسهم في تكوين وعي نقدي جماعي.
ما يُميز الصحفي في مجتمع المعرفة ليس فقط امتلاكه للأدوات التقنية، بل قدرته على التفكير، والتحليل، وطرح الأسئلة الصحيحة في مواجهة الخطاب الرسمي أو السائد.
إن الصحفي الحقيقي لا يُلاحق فقط “ما حدث”، بل يُسائل أيضًا: “لماذا حدث؟”، و”كيف يؤثر؟”، و”لمن يخدم؟”.
ومن هنا، ينبغي ألا يفقد الصحفي ثقته في رسالته، بل عليه أن يُطوّر أدواته باستمرار، ويتحصن بالمعرفة، ويظل على تواصل حقيقي مع قضايا مجتمعه.
إن التكوين السوسيولوجي والثقافي العميق للصحفي، والتزامه بأخلاقيات المهنة، هو ما يجعله فاعلًا لا غنى عنه في بناء مجتمع ديمقراطي قائم على الفهم.
الصحفي، في نهاية المطاف، ليس فقط من يروي الحدث… بل من يُعيد بناء المعنى.