وهران
د. سعاد بسناسي: باحثة بوهران تتخطى حدود التخصص لتجمع بين النقد و اللسانيات والإبداع الأدبي

جميلة. م
تبرز تجربة الدكتورة سعاد بسناسي كبصمة فريدة من نوعها في الحقل العلمي والثقافي الجزائري والعربي بولاية وهران. كأول أستاذة استطاعت أن تجمع بين النقد واللسانيات. فمن تخصصها الدقيق في اللسانيات والصوتيات، انطلقت بخطى واثقة نحو مجالات جديدة، لتصبح أول أستاذة جزائرية توفق بين النقد الأدبي والتحليل اللساني، قبل أن تطرق باب الإبداع الأدبي عبر الشعر والسرد. تجربة متعددة الأبعاد، تثبت أن العلم لا يتنافى مع الذوق الأدبي، بل يكمله.
أكثر من 53 تأليف في مسيرة علمية متميزة
في لقاءها مع كاب ديزاد، تقول الدكتورة سعاد بسناسي: “بدأت في اللغويات 1999بعد تخرجي بالليسانس وتحضيري الماجستير دراسات لغوية في الجزائر، بدأت باحثة في الدراسات اللغوية، تحديدا في اللسانيات والصوتيات كتخصص دقيق منذ 2002″، وهي بذلك تؤكد أن مشروعها العلمي تأسس على أسس متينة من التكوين المتواصل والبحث المنهجي.
فبعد حصولها على شهادة الماجستير في الدراسات اللغوية سنة 2002، واصلت بحثها العلمي حتى نالت دكتوراه علوم في اللسانيات سنة 2007، لتبدأ في ذات العام أولى إصداراتها العلمية بكتاب “المقررات الصوتية في البرامج الوزارية للجامعة الجزائرية: دراسة تحليلية تطبيقية”، أنجزته بالشراكة مع أستاذها المشرف، وقد شكّل هذا الكتاب اللبنة الأولى لمشروع علمي موسّع في حقل الصوتيات.
و توالت بعدها الإصدارات، منها كتابين في التحولات الصوتية والدلالية الاول في المباني الافرادية والثاني في المباني التركيبية 2012طبعا في الأردن كتاب في السمعيات (2013)، و العديد من الكتب المتخصصة التي لامست الجوانب التطبيقية والنظرية في اللسانيات، لتصل حصيلة أعمالها إلى أكثر من 53 مؤلفا بين فردي وجماعي.
هذا الحضور الكثيف والمنتظم في مجال النشر العلمي يدل على اجتهاد أكاديمي متواصل، وحرص على الإسهام الجاد في تطوير حقل اللسانيات في الجزائر والعالم العربي، لا سيما عبر البحث في اللسانيات العصبية، وهو ما توج مؤخرا بإصدارها الجديد سنة 2024 حول هذا الفرع المتطور.
إلى جانب نشاطها الأكاديمي، تشغل الدكتورة سعاد بسناسي منصب مديرة مخبر اللهجات ومعالجة الكلام بجامعة وهران 1 منذ سنة 2016 إلى اليوم، كما تُدير وتترأس تحرير مجلة “الكلم” المحكمة الدولية المصنفة، الصادرة عن المخبر نفسه منذ اعتمادها لأول عدد سنة 2014، ما يعكس إيمانها بأهمية الفعل المؤسساتي العلمي والتكامل بين البحث والتأطير.
التحول إلى النقد الأدبي: نقلة نوعية في مجال البحث
في سنة 2021، وفي لحظة مفصلية من مسيرتها العلمية، اختارت د. سعاد بسناسي أن توسع أفق اشتغالها، فتوجهت نحو مجال النقد الأدبي والدراسات السردية والتأويلية. تقول عن هذه المرحلة: “2021 كانت نقطة تحول مهمة، بدأت اهتماماتي بالنقد والدراسات السردية والتأويلية، وكان ذلك نقلة في مجال البحث بالنسبة لي.”
هذا التحول لم يكن مجرد خروج عن التخصص، بل كان تطورا طبيعيا لباحثة أدركت أن المنهج اللساني يمكن أن يكون مدخلا أصيلا لتحليل النصوص الأدبية. فقد استطاعت أن توظف أدوات التحليل الصوتي واللغوي لفك شفرات الخطاب السردي، مما مكنها من إنتاج نقد مبني على معرفة لغوية معمقة.
وقد توج هذا التوجه النقدي الجديد بإصدارها الأول في النقد سنة 2023 بعنوان “مضمرات ملفوظ السرد”، وهو كتاب طبع في الأردن ولاقى اهتماما في الوسط النقدي، لما فيه من تحليل دقيق لآليات الخطاب السردي، واستكشاف للمعاني الضمنية في النصوص.
نحو الابداع في الشعر والسرد على خطى البحث
لم يكن الانفتاح على النقد سوى تمهيد لخطوة أكثر جرأة: ولوج عالم الإبداع الأدبي، وهو ما تجسد في أولى محاولاتها الشعرية التي توجت بإصدار ديوان “ظلال لا تشبهني”، في تجربة حسية وفكرية تعكس تحول الباحثة إلى ذات شاعرة.
و يعد هذا الديوان سابقة مهمة في مسار د. سعاد بسناسي، حيث تقول عنه: “أبشّرك بسابقة مهمة، لم يتناولها أحد: صدر لي أول مجموعة شعرية بعنوان (ظلال لا تشبهني)، وكانت أول محاولة لي في الشعر.”
لكن هذه المحاولة لم تكن نهاية المطاف، بل بداية جديدة، إذ تعمل حاليا على أول رواية أدبية، والتي تعد بأن تكون تتويجا لرحلة من التأملات والتجارب اللغوية والمعرفية.
وبين الشعر والرواية، تتجلى قدرة د. بسناسي على كسر الجدران الفاصلة بين العلمي والإبداعي، وعلى تحويل المعرفة إلى طاقة فنية تخاطب الذائقة وتثير التساؤلات.
رسالة مفتوحة للطلبة والباحثين: تجاوزوا حدود التخصص
في كلمات نابضة بالتجربة والمعنى، توجه الدكتورة سعاد بسناسي رسالة إلى الطلبة والباحثين في اللغة والأدب، داعية إياهم إلى الانفتاح على جميع العلوم والتخصصات للإفادة منها قدر المستطاع: “إلى كل من يمشون في دروب العلم والمعرفة، ومن ينصتون للنصوص بقلوب يقظة، ويفتحون نوافذ التأويل على عوالم المعنى، أقول لهم: إن العلم لا يكتفي بالسؤال، بل يضيء السبيل نحو الاكتشاف. ولا يجب أن نرسم حدود التخصص، بل أدعوكم إلى تجاوزها، إلى أن تجعلوا من ميولكم الفكرية جسورا تعبرون بها من مجال إلى آخر، ومن علم إلى رؤيا…
لقد بدأت رحلتي في رحاب اللسانيات، حيث كانت اللغة لي وطنا أول، والصوتيات مدخلي لفهم البنية العميقة للكلام. لكن شغفي بالسيميائيات منذ أيام الدراسة في مرحلة الليسانس بجامعة وهران 1، دفعني إلى ولوج عالم النقد بعد تجربة طويلة منذ تدريسي في الجامعة وولوجي لها أستاذة منذ سنة 2002 إلى يومنا هذا، لا من باب التطفل الإيجابي، بل من باب العشق المعرفي الذي لا يعرف الحواجز…
رسالتي إليكم: لا تجعلوا من التخصص قيدا، بل اجعلوه نقطة انطلاق. استفيدوا من كل علم تميلون إليه، فالميول ليست نزوات عابرة، بل إشارات وجودية إلى ما يمكن أن تكونوه.”
هذا و تميزت مسيرة الدكتورة سعاد بسناسي أنها لم تسجن نفسها في قالب أكاديمي جامد، بل اختارت أن تكون باحثة متعددة الاتجاهات، تؤمن بأن العلم لا يكتمل إلا إذا اتصل بالحياة والفن والإنسان.
هي اليوم أستاذة بجامعة وهران 1، ومرجعية في حقل اللسانيات والصوتيات، ومديرة لمخبر بحث أكاديمي ومجلة علمية مرموقة، ولكنها أيضا صوت نقدي وإبداعي نسوي جديد في الساحة الأدبية الجزائرية والعربية.
كما أن انتقالها من المجال العلمي إلى النقدي ثم الإبداعي يفتح آفاقا جديدة أمام الأجيال القادمة من الباحثين والباحثات، ليدركوا أن الحدود بين التخصصات ليست نهاية، بل جسور نحو المزيد من الاكتشاف والمعنى.
في زمن تزداد فيه الحاجة إلى قدوات نسوية مؤثرة في الحقول العلمية والثقافية، تبرز تجربة الدكتورة سعاد بسناسي كنموذج للمرأة الجزائرية التي تمزج بين العقل النقدي والإحساس الفني، وتُثبت أن المثقف الحقيقي هو من لا يتوقف عن البحث والسؤال، سواء في المختبر أو في القصيدة.
هي ليست فقط أستاذة جامعية أو كاتبة أو ناقدة، بل مشروع إنساني ومعرفي متكامل، يلهم كل من آمن أن الحرف يمكن أن يغير العالم، وأن الصوتيات ليست بعيدة عن الأصوات التي تسكن الشعر والرواية.